مع كل قضية فساد، وعلى مدى سنوات تدور الكثير من المناقشات والمجادلات عن السبب فى الفساد، وهل هو المنظومة الإدارية والبيروقراطية، وهل الفاسد هو بالضرورة إنسان محتاج أو فقير، وهل الفساد بسبب نقص القوانين والتشريعات أم ضعف الرقابة أم النظام الإدارى الذى يمتلئ بالثغرات، والتى ينفذ منها الفاسدون. ثم إن الإعلان عن ضبط فاسدين جدد يوميًا لايمثل رادعًا للفاسدين المحتملين.
كل يوم تعلن الرقابة الإدارية والأموال العامة، عن ضبط مرتشين وفاسدين فى إدارات الحكومة أو الأحياء والمدن، ومع هذا يتكرر الفساد، بل ونذهب إلى القول إن الفاسدين فى كثير من الأحيان معروفون فى محيطهم، لأنهم موظفون صغار يتحولون إلى مليونيرات من دون أن تكون لهم أنشطة تجارية أو أموال موروثة، ومع أن لدينا قانون الكسب غير المشروع والذى يسأل: من أين لك هذا، فإنه لايطبق غالبًا إلا فى حالات التلبس.. وهناك عشرات الأمثلة لفاسدين يعيشون حياتهم بشكل علنى ومن دون أى إخفاء أو مداراة.
وعندما يدور النقاش عن أسباب استمرار وتصاعد الفساد تأتى بعض التفسيرات أنها بسبب انتشار البيروقراطية وتزايد دور الموظف وسلطاته من دون أن يكون هناك رقيب على عمله، وأكبر مثال على هذا فإن سلطة الأحياء والمدن فى منح تصاريح البناء تبدو مطلقة والإدارات الهندسية فى الكثير من الأحياء والمدن تتعامى عن المخالفات، وتعطل المبانى التى تلتزم بالقانون، وتخترع مخالفات تافهة لمن يلتزمون القانون، بينما يتسامحون مع المخالفات الضخمة، وإذا لجأ أصحاب المبانى السليمة للمستويات الأعلى من محافظين فإنهم لايجدون ردا. ولا توجد رقابة على أعمال الموظفين والإدارات الهندسية، وبالتالى فإن باب الفساد مفتوح على مصراعيه، ولا توجد لجان شكاوى من الرقابة الإدارية أو الجهات الأعلى تراقب وتتابع بشكل سريع أعمال الأحياء. ولايجد من يريد الطريق السليم بدا من الانخراط فى هذا العالم المريب.
فى كثير من الأحيان تجرى مناقشات عن أسباب الفساد فيرى البعض أنه بسبب غياب الضمير أو الوازع الدينى، بينما الواقع يشير إلى أن كثيرا من الفاسدين الذين سقطوا مؤخرا لاينقصهم الشكل الدينى، بل أن بعض كبار المرتشين كانوا يحصلون من بين الرشاوى على رحلات حج وعمرة. وبينما نحن نبالغ فى الرهان على الضمير، فإن الدول المتقدمة لانجد لديهم حديثا عن الضمير أو التدين ولكن عن «القانون».
الرهان على الضمير وحده يعنى أن الشخص صاحب الضمير يؤدى عمله بشكل جيد، بينما من يغيب ضميره يهمل ويفسد، بينما القانون عندما يتم تطبيقه بحسم ووضوح يجعل الجيد جيدا، والفاسد المحتمل رغما عنه سيكون تحت الرقابة والقانون.
الواضح أن النظام الإدارى لدينا بحاجة إلى « نسف» وتغيير وطوال عقود هناك مطالب ومساعى لتقليل دور الموظفين ومضاعفة قواعد المعلومات والخدمات الإلكترونية والفصل بين القرار والرقابة وفتح باب الشكاوى والاعتراض لمن يضار. وكل هذا يعنى حكم القانون، وعدم الرهان على ضمير يمكن أن يغيب وتغيب معه كل عناصر العدالة. الحل فى القانون.