بقلم / عبد القادر الكاملي – مستشار تكنولوجيا المعلومات والاتصالات
العمل من المنزل قديم قدم التجمعات البشرية، بل وكان الشكل السائد للعديد من المهن كالنجارة والحدادة والخبازة قبل الثورة الصناعية الأولى التي بدأت باختراع الآلة البخارية عام 1784، حيث كان مكان العمل المهني قبلها امتداداً للمنزل.
اليوم تختلف فكرة العمل من المنزل عما كانت عليه قبل الثورة الصناعية الأولى، والأصح تسميتها بالعمل عن بعد الذي أصبح متاحاً بفضل الثورة الصناعية الثالثة التي بدأت عام 1969 مع دخول الكمبيوتر عالم الاتصالات وإرسال أول رسالة عبر الإنترنت، ثم توسع في تسعينات القرن العشرين مع انتشار الكمبيوتر والإنترنت في المنازل والمقاهي والفنادق. فهل سيصبح العمل من المكاتب الفاخرة فكرة بالية مع تقدم الثورة الصناعية الرابعة المسلحة بالذكاء الاصطناعي؟
لم يكن العمل عن بعد ناجحاً على الدوام، ففي عام 2009 كان 40 بالمئة من موظفي شركة آي بي إم (IBM) البالغ عددهم آنذاك 386 ألف موظف في 173 دولة، يعملون عن بعد. لكن ومع تراجع إيرادات الشركة أعادت الإدارة عام 2017 الآلاف منهم للعمل في المكاتب.
وفي عام 2013 وبعد أقل من عام على تعيينها كرئيسة تنفيذية لشركة ياهو، أعادت ماريسا ماير القسم الأكبر من الموظفين الذين كانوا يعملون عن بعد إلى المكاتب، بحجة أن بعض القرارات والأفكار الجيدة تأتي من الاجتماعات والمناقشات المرتجلة التي تدور بين الموظفين في ردهات وكافتيريات الشركات.
وعندما سئل المدير المالي السابق لشركة غوغل، قبل عدة سنوات عن عدد الأشخاص الذين يعملون عن بُعد في الشركة؟ أشار إلى أنه عدد قليل فقط.
لكن مع انتشار وباء كوفيد-19 واضطرار العديد من الشركات لإغلاق مكاتبها وتحول الموظفين نحو العمل من المنزل، وتطور الأدوات المناسبة لذلك، بدأت هذه النظرة تتغير، فشركة غوغل منحت موظفيها خيار العمل من المنزل حتى 30 يونيو 2021 في حال لم يكن وجودهم في المكتب ضرورياً. وقررت الشركة إلغاء خططها لاستئجار مكتب في مدينة دبلن بأيرلندا مساحته تقارب 19 ألف متر مربع، ويتسع لـنحو ألفي موظف. ويتوقع موقع فيسبوك أن يعمل نصف موظفيه عن بعد بحلول عام 2025. وسمحت شركات أخرى كثيرة مثل موقع كورا (Quora) للأسئلة والأجوبة لموظفيها بالعمل عن بعد على الدوام إذا كانت هذه رغبتهم.
وأظهر استطلاع أجرته مؤسسة كلتش (Clutch) أن 17 بالمئة من موظفي الولايات المتحدة عملوا من المنزل 5 أيام أو أكثر في الأسبوع قبل جائحة كوفيد-19، ثم ارتفعت النسبة إلى 44 بالمئة بعد انتشارها. أما في بريطانيا فأظهرت التقارير ارتفاع معدل العمل من المنزل من 6 بالمئة قبل الجائحة إلى 43 بالمئة بعد انتشارها.
وأشار تقرير صادر عن أكاديميين في جامعتي كارديف وساوثامبتون البريطانيتين إلى أن 9 أشخاص من أصل عشرة من الذين عملوا في المنزل أثناء الإغلاق يرغبون في مواصلة العمل بهذه الطريقة، حتى عندما لا تعود قواعد التباعد الاجتماعي ضرورية. كما بيّن التقرير أن إنتاجية معظم العاملين من المنزل حافظت على مستواها إن لم ترتفع. الجدير بالذكر أن بعض الشركات مثل مصرف جي بي مورغان (JPMorgan)، قال إن العمل من المنزل أدى إلى تراجع إنتاجية موظفيه وخاصة الشباب منهم. لكن مع ذلك يوجد إجماع على أن العمل عن بعد وجد ليبقى وينمو حتى بعد انحسار جائحة كوفيد-19.
العامل الافتراضي (Virtual Worker)
صنفت دراسة صادرة عن جامعة شيكاغو عام 2019 (أي قبل انتشار كوفيد-19) بلدان العالم وفق نسبة العمالة التي يمكنها العمل كلياً عن بعد، حيث احتلت اللوكسمبرج المرتبة الأولى بنسبة 53.42 بالمئة وسويسرا المرتبة الثانية بنسبة 44.86، والسويد المرتبة الثالثة بنسبة 44.2 بالمئة واحتلت الولايات المتحدة الأمريكية المرتبة التاسعة بنسبة 41.57 بالمئة. وضمت الدراسة دولة الإمارات العربية المتحدة التي احتلت المرتبة 37 بنسبة 28.89 بالمئة. ويعني ذلك أن نحو 29 بالمئة تقريباً من العمالة في دولة الإمارات يمكنها العمل عن بعد إن توفرت الظروف المناسبة، وهذا يترجم إلى نحو مليون وستمئة ألف عامل. وإذا افترضنا أن ربع هؤلاء فقط يستخدمون سياراتهم الخاصة للذهاب والإياب إلى العمل أي نحو 400 ألف عامل وبافتراض أن متوسط رحلة العمل ذهاباً وإياباً تقدر بنحو 20 كيلومتر، فسوف يؤدي تحولهم للعمل عن بعد إلى توفير 8 ملايين كيلومتر في اليوم أو نحو 2.5 مليار كيلومتر في العام (بافتراض العام مكون من 300 يوم عمل). وهذا ينعكس إيجابياً على البيئة من جهة وعلى حركة المرور من جهة أخرى. ويضاف إلى ذلك الفوائد الناجمة عن التوفير في النقل الجماعي لباقي الأشخاص الذين سيتحولون للعمل عن بعد. والتوفير في تكلفة استخدام وتشغيل المكاتب.
وتناولت دراسة جامعة شيكاغو أيضاً القطاعات الاقتصادية المختلفة ونسبة العمل عن بعد الذي يمكن أن يبلغه كل منها، فجاء قطاع الخدمات التعليمية في المرتبة الأولى بنسبة بلغت 83 بالمئة، تلاه قطاع الخدمات العلمية والتقنية بنسبة 80 بالمئة، ثم قطاع خدمات إدارة الشركات والمؤسسات بنسبة 79 بالمئة، ثم قطاع خدمات المال والتأمين بنسبة 76 بالمئة. أما القطاعات الاقتصادية التي جاءت في ذيل القائمة فكانت البناء بنسبة 19 بالمئة ثم تجارة التجزئة بنسبة 14 بالمئة ثم الزراعة والصيد بنسبة 8 بالمئة وأخيراً قطاع الاستضافة والخدمات الغذائية بنسبة 4 بالمئة.
الرحالة الرقميون (Digital Nomads)
توقعت مجلة الإيكونوميست العام الماضي أن يبلغ عدد العاملين عن بعد نحو مليار إنسان على مستوى العالم بحلول عام 2035. الآن وبعد أن أثبت إغلاق المكاتب بسبب جائحة كوفيد-19 نجاعة هذا الأسلوب من العمل في العديد من المهن، يتوقع الخبراء ألا يتطلب الوصول إلى رقم المليار أكثر من عقد من الزمن. وبما أن العمل عن بعد يمكن أن يتم من أي مكان سواء داخل البلد التي تدير الشركة أعمالها منها أو خارجها، ومع ازدهار العمل عن بعد والتأكد من فعاليته في العديد من القطاعات الاقتصادية، بات بإمكان العديد من الموظفين الدمج بين السياحة والعمل حيث يتوقع أن تنمو هذه الظاهرة بشكل كبير بعد انحسار جائحة كوفيد-19. لنفترض أن مقر عملك في لندن وسمحت لك الشركة بالعمل عن بعد من أي مكان تريد، فتقرر قضاء عدة أشهر في باريس ثم الانتقال إلى مدينة صغيرة في كرواتيا فتعمل منها لعدة أشهر أخرى، ثم إلى إحدى المدن العربية المهيأة لذلك، وهكذا. وكل ذلك وأنت لاتزال تعمل لنفس الشركة.
دفع هذا التوجه بلدان عديدة لمحاولة الحصول على نسبة من هؤلاء الجوالين مهنياً، فلو تمكنت دبي مثلاً من الحصول على نسبة 1 بالمئة من هؤلاء فسوف يعني ذلك 10 ملايين شخص في العام مستقبلاً. ولجذب هؤلاء باشرت العديد من البلدان إلى إصدار تأشيرات زيارة طويلة الأمد تمتد لعام على الأقل.
سيتمكن الرحالة الرقميون الراغبون في العيش في كرواتيا قريباً من القيام بذلك، حيث أن البلاد بصدد إصدار تأشيرة الرحّالة الرقمي، والتي ستسمح للأجانب الذين يعملون في وظائف مستقلة عن الموقع والوقت، بالعمل في كرواتيا.
كما فتحت إستونيا في الأول من أغسطس/آب الماضي طلبات الحصول على تأشيرة الرحالة الرقمي (DNV). ستسمح هذه التأشيرة الجديدة للأجانب بالبقاء في إستونيا لمدة تصل إلى عام واحد، فيما يعملون لحسابهم الخاص أو يعملون عن بُعد لشركة أجنبية.
العديد من البلدان وفرت إمكانية الحصول على تأشيرات إقامة طويلة لمدة سنة أو أكثر منها: ألمانيا، جمهورية التشيك، اسبانيا، المكسيك، برمودا، أستراليا، البرتغال، جورجيا وجزيرة بربادوس.
بدأت منذ سنوات قليلة تظهر شركات متخصصة بتلبية احتياجات نمط حياة الراغبين في العمل عن بعد وهم ينتقلون من مكان لآخر يستكشفون ثقافات جديدة، ويقابلون أشخاصاً من جميع أنحاء العالم مع الحفاظ على حياتهم المهنية.
تنقسم هذه الشركات إلى عدة أنواع منها شركات متخصصة في إيجاد وظائف للراغبين في العمل عن بعد ومنها
شركات توفر خدمات إقامة موثوقة وبأسعار معقولة في مواقع جذابة حول العالم بسعر يقل كثيراً عن الأسعار السياحية. ومنها شركات تأمين صحي عالمي للراغبين في العمل عن بعد.
يتوقع أن يؤدي استخدام الذكاء الاصطناعي في بلدان مجلس التعاون الخليجي وتأثير كوفيد-19 إلى تراجع أعداد العمالة الوافدة في تلك البلدان، وبالتالي تراجع عدد السكان مما سينعكس سلباً على سوق العقارات وتجارة التجزئة وقطاعات اقتصادية أخرى، فمثلاً ووفق تقديرات أوكسفورد إيكونوميكس فإن دولة الإمارات قد تفقد 900 ألف وظيفة عام 2020 ويغادرها حوالي 10 في المائة من السكان. وربما يؤمّن جذب الرحالة الرقميون إلى تلك البلدان توازناً لهذه القطاعات الاقتصادية، خاصة وأن البنية الأساسية للاتصالات فيها متينة، لكن الأمر يتطلب إصدار قوانين مناسبة تسمح بالبقاء في هذه الدول لمدة عام على الأقل لمن تتوفر فيهم شروط الرحالة الرقمي. وقد يبشر ذلك ببزوغ الواحات الرقمية العربية (Arabic Digital Oasis).