بعد عشرة أعوام على التغيير الذي عصف بنظام زين العابدين بن علي ، وأقر نظام حكم يقوم على المشاركة وتقاسم السلطة بين الرئاسات التونسية الثلاث ” الرئاسة والحكومة والبرلمان” ، تقف تونس الآن على أعتاب مرحلة جديدة وربما تكون فاصلة ، حيث من المتوقع أن تنتج نظاما سياسيا جديدا تنتهي فيه فترة المشاركة بين الرئاسات الثلاث في تسيير الحكم وشئون البلاد .
وعلى الرغم من غموض مصير نظام الحكم الذي يمكن أن تفرزه هذه المرحلة المليئة بالتجاذبات والخلافات بين قيادات الدولة التونسية سواء على أساس أيديولوجي أو سياسي ، إلا أن الأمر الذي باتت تؤكده الدلائل ، هو أن نظام الحكم الحالي الذي يسيطر على تونس وهو النظام البرلماني المعدل لن يكون قابلا للاستمرار ، بسبب الأزمات المتتالية التي يمكن أن تعصف بالعملية السياسية برمتها ، خاصة في ظل حراك الشارع المؤثر ، والذي بات متجتوزا حدود المطالب الحياتية بسبب الازمة الاقتصادية ، مع إرتفاع أصوات التأييد لكل طرف على حده ، فالتظاهرة التي نفذها عدد من التونسيين، صباح الأحد الماضي ، لمساندة الرئيس قيس سعيد أمام منزله بمنطقة المنيهلة بالعاصمة تونس ، رفعوا خلالها لافتات للتضامن مع الرئيس، في مواجهة ما اطلقوا عليه “حملة التشويه” ومحاولة التسميم، وأيضا تصريحات رئيس البرلمان راشد الغنوشي التي هاجمه فيها واصفا تحفظات الرئيس على التعديل الوزاري الأخير بأنها من بابا المكائد السياسية .
إلا أن الأمر الذي يؤكد وضع النظام السياسي الحالي في تونس رهينة الخلاف السياسي وحراك الشارع هو ما صرح به رئيس البرلمان التونسي وزعيم تنظيم الاخوان هناك ، والتي أكد فيها على أن النظام الذي تعيشه تونس حاليا وهو النظام البرلماني المعدل لا يمنح سلطات كافية تسمح للرئيس الاعتراض على التعديل الوزاري باعتباره حقا أصيلا لرئيس الحكومة والبرلمان ، وأن الرئيس التونسي يريد جر البلاد إلى الحكم بنظام رئاسي وليس برلماني تكون فيه السلطة المطلقة لرئيس الجمهورية ، الأمر الذي أثار موجة من الغضب والاستياء لدى الساسة والنشطاء، أشارت أصابع الاتهام للغنوشي بمحاولة الالتفاف على الديمقراطية التونسية، وتغيير شكل النظام لصالح حزبه ، مما يؤشر إلى تعميق الأزمة السياسية ، الذي خرج لأول مرة عن مناوراته ووجه السهام بشكل مباشر لرئيس الجمهورية، بعد أشهر من التصريحات التي نفى فيها توتر علاقته به.
وأزمة قال عنها الصحفي والمحلل السياسي، جمال العرفاوي، إنها “كشفت المواجهة التي كانت مخفية بين الغنوشي وسعيد، لتصبح الخصومة بين الرجلين دون أقنعة”.
ويرى مراقبون أن الغنوشي يحاول عبر تصريحاته “إرباك رئيس الجمهورية”، وتكريس النظام البرلماني الخالص الذي تكون فيه اليد العليا للبرلمان ، رغم أن آخر استطلاعات الرأي تؤشر إلى أن 94 في المائة من التونسيين يرفضون استمرار البرلمان لأنه يضم فاسدين ، فيما يرمي زعيم النهضة إلى تكريس نفوذ الإخوان وحلفائهم ، بسبب الانتكاسات التي منيت بها الحركة المرفوضة شعبيا خلال الفترة الأخيرة ، بالإضافة إلى محاولات قطع الطريق أمام صعود الحزب الدستوري الحر بقيادة عبير موسي، التي تؤكد كل المؤشرات تصاعد شعبيته ، ناهيك عن مطالبات “النهضة” بتعديل القانون الانتخابي، خوفا من استفادة موسي من ذلك ، كما يسعى الغنوشي أيضا إلى قطع الطريق أمام سعيد وتحجيم سلطته، إذ يبدو جليا اليوم أن سعيد سيبقى رئيسا لتونس حتى بعد الانتخابات المقبلة، كما تؤكد استطلاعات الرأي.
ولعل القراءة المتأنية للمشهد التونسي وخلافاته المتصاعدة تشير إلى أن الغنوشي أعلن “نهاية مشروع النظام البرلماني المعدل الذي يحكم تونس، وما يعنيه من تقاسم السلطات بين الرئيس والبرلمان والحكومة ، الأمر الذي يعد اعترافا ضمنيا منه بفشل المنظومة التي جاءت بها حركة النهضة الإخوانية بعد ثورة التونسيين على نظام بن علي ، بالإضافة إلى أن حديث الغنوشي عن دور ثانوي للرئيس في الحكم ، يعد مخالفا لدستور 2014 ، رغم أن الرئيس قيس بن سعيد حصل وحده في الانتخابات الماضية على ثلاثة ملايين صوت ، بينما حظي البرلمان بالكامل على أصوات أقل من مليوني ناخب، مما يؤكد أن طرح الغنوشي هو محاولة للقفز على إرادة الشارع وغير قانوني ومخالف للدستور ، الأمر الذي جعل المناخ السياسي في تونس يدخل مرحلة الشحن والصراع خاصة بعد التعديلات التي أجراها المشيشي على حكومته على غير إرادة الرئيس الذي رفض دعوة الحكومة الجديدة لأداء اليمين الدستورية أمامه ، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه لإضفاء مزيد من التعقيد على المشهد التونسي، وتأجيج صراع دستوري بين رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية ، خاصة وأن الفصل 89 من الدستور التونسي ينص على أن يؤدي رئيس الحكومة وأعضاؤها اليمين الدستورية أمام رئيس الجمهورية، كشرط أساسي لمباشرة عملهم، بعد نيلهم ثقة البرلمان.
ومع إستمرار الإرتباك في المشهد السياسي التونسي وتصاعد الصدام ،مع تأكيد “قيس بن سعيد” عدمَ دستورية التعديلات الحكومية الأخيرة، وحصوله على دعم قطاع من كتل برلمانية لا تُخفي عداءها لحركة النهضة ، وفي المقابل تلويح الأغلبية البرلمانية الداعمة لحكومة “المشيشي” بعزله رغم تعطل المحكمة الدستورية المخولة بذلك منذ سنوات ، فإن المتوقع أن تسهم حراكات الشارع في تجميد الخلاف حول قضية التعديل الوزاري ، بالاضافة إلى المخاوف من الانعكاسات السلبية المحتملة حال تفاقم واستمرار الاحتجاجات التي تشهدها شوارع تونس منذ مطلع العام الجاري، مع تنامي الدعوات إلى محاصرة المقرات الحكومية، وخاصة مقر البرلمان ، كما أن النخب التونسية تعي جيدا أن الاقتصاد التونسي ليس ذاتي التمويل، وإنما يعتمد بالأساس على التدفقات الاستثمارية الخارجية، وعلى السياحة ، الأمر الذي يؤكد ضرورة التوجه نحو معالجة المخاوف من تداعيات حالة الاحتقان السياسي على أوضاع الاقتصاد الذي يعاني حالة غير مسبوقة من التراجع والانهيار .
إن التعقيدات التي يشهدها الوضع التونسي، وتصاعد حدة الأزمة الإقتصادية ، يمكن أن تدفع أطراف الأزمة نحو حلحلة المواقف لتمرير ما يمكن وصفه ب “التوافقات الصعبة” ، فحركة النهضة تعتبر الأزمة مدخلًا يمكن البناء عليه لتثبيت هيمنتها على الحكومة من جهة، ومن جهة أخرى تعزيز التوجه نحو إقرار صيغة الحكم البرلماني ، بينما ترى الكتل المعارضة لها من التيارات المدنية وعلى رأسها الحزب الدستوري أن دعم مواقف الرئيس وتقوية سلطاته يمكن أن تؤدي إلى إضعاف النهضة والأحزاب المتحالفة معها ، خاصة حال إضطرار البلاد إلى الذهاب لإنتخابات مبكرة ، الأمر الذي يجعل من حراك الشارع والتنظيمات المجتمعية والعمالية مثل إتحاد الشغل التونسي قوة مؤثرة في تحديد خيارات النظام السياسي المستقبلي الذي سيحكم تونس خلال السنوات القادمة .