في هذه الايام المباركة والتي نتضرع فيها الي المولي عزوجل ان يتقبل صيامنا وقيامنا وان يلهمنا الصبر علي ما نمر به ، حتي تحل علينا الذكرى السنوية الاولى لرحيل اغلي واعز انسانة لي في الدنيا .. أمي نبع الحنان .. رحيل من كنا نكرم من اجلها..وجاءت ذكري وفاتها في احلك وأصعب الظروف التي ممكن لاي انسان ان يعيشها او يتحملها ففي خلال ٤٨ ساعة افقد اخي الغالي مربي الاجيال الاستاذ طارق ثم بساعات افقد ابن شقيقتي الغالية فقيد الشباب ” فارس دافع ” فعن اي وجع تتحدثون !!
وجاءت هذه الايام الذكري الاولي لرحيل قيثارة حياتي ” أمي الغالية ” لتجدد جراح اليم بداخلها وليستعيد معها تاريخ حياة ورحلة كفاح مع والدي رحمة الله.. رحلة تجاوزت نحو ٥٥ عاما من الكفاح والمثابرة.
تزوجته صغيرة وكان أبى جزارًا صغيرًا يعمل مع والديه،، أنجبت أطفالا كثيرين ربتهم أفضل تربية وتعليم وسقتهم من حنانها وعطفها.
تعجب كيف كانت تجهز كل هؤلاء من الاولاد مرة واحدة للذهاب للمدارس وهى تخدمهم بدءا من الاستيقاظ والإفطار واللبس وتجهيز الشنط، فهذا يبحث عن كراسته والآخر غاضب لأنه لا يجد الكتاب، ثم تقبلهم واحدا إثر الآخر.
عشنا حياة كريمة حنونة عطوفة لم يضربنا أحد بأوامر والدي الصارمة، كنا فى واحة من الحب والرقة.
كانت أمى غاية فى الحكمة والحلم منذ صغرها فاستطاعت أن تسوس جدى وجدتى وتخدمهما وتنال رضاهما وتستفيد منهما فى تربيتنا.
كان أبى مكافحا منذ البداية فى أوائل الستينات ، فإذا بهذه الأم العبقرية تدير البيت الكبير ويسر دون أن تمد يدها لأحد بل تبذل الكرم والخير لضيوفها، فقد كان لكل منا ضيوفه منذ طفولتنا.
كانت هناك حجرة «للخزين» فيها العسل والجبن والخبز بأنواعه والكشك والشعرية فضلا عن البط والأوز والدجاج والحمام، والبيض، وكان الضيف يأتى فجأة ليجد الدجاجة والطعام أمامه خلال نصف ساعة دون الاحتياج للمحلات.
أتأمل أمى وأقارنها بالزوجات الآن خريجات الجامعة التى لا يكفيها خمسة آلاف جنيه شهريا ومعها ولدان فقط، وتكون متذمرة حانقة وفاشلة فى التربية والحزم مع أولادها ودائمة التكدير لزوجها، فأقول جيل أمى كان أحكم وأعقل وأصبر وهو الجيل الذى خرج الاعلامية الكبيرة ابنه زفتي الدكتورة درية شرف الدين زميلة والدتي في المرحلة الابتدائية وغيرهما.
أمى أول من علمتنى إكرام الضيف وحسن استقباله منذ صغرى، فقد كان بيتنا قبلة لأولى القربى من الريف الذين يفدون المدينة فى كل شىء، كانت أمى امرأة جامعة وصولة ومحبة للناس والحياة لا تكره أحدا، ولا تذم أحدا، وكان أبى رجلا متسامحا صوفيا عابدا، ولكن أمى كانت رائدة التجديد والتطوير فى حياتنا.
أمى أول من علمتنى كيف نكرم الفقير والمحتاج، كانت رمزا من رموز المحبة لجيرانها حتى وفاتها، ما خبزت يوما إلا وأرسلت لجاراتها بعض الخبز، ولا جاءت لنا فاكهة أو خيرات من الريف إلا ووزعت منه عليهم.
حبال صبرها ممتدة وطويلة، كرمها لا نهائى استمر حتى بعد مماتها، فهذه تقول والدتكم رحمها الله أعطتني منحه ، وأخرى اعطتني طعام في كل المناسبات ، وثالثة تقول كانت عونا لى طوال حياتى.
قرأت مئات الكتب وكتبت آلاف المقالات ولكنى لم أصل إلى شىء من حكمتها وعميق إيمانها وتدينها الفطرى، المنتمى إلى الله وحده دون سواه، لا ينازعه انتماء لجماعة أو حزب أو أدلجة أو انتماء لشىء سوى الله.
إنه إيمان العوام الذى ملأ مصر قديما، لا يعرف اللوع أو الانتهازية أو الكراهية أو الأحقاد، إنه الإيمان الذى قال عنه حجة الإسلام الغزالى «يا ليتنى أموت على ما ماتت عليه عجائز نيسابور» وجدته فى أمى
كانت أمى فى السبعين تقوم الليل ولا أقومه وتصوم النوافل كلها ولا أصومها، تذكر الله كل يوم آلاف المرات، لا تفوتها صلاة الفجر، بيتها وقلبها يسع الجميع وأنا لا أستطيع أن أفعل شيئا من ذلك.
يمكن أن تجد عشرين شخصا يأكلون مرة واحدة فى بيتها دون أن تضيق بهم أو تضجر منهم أو لا يكفيهم الطعام، الآن أى زوجة تضيق بثلاثة ضيوف حتى لو جاءوا كل عدة أشهر، وترغى وتزيد وكأنها ستصنع القنبلة الذرية.
كان بيت أمى فى كل الحالات مملوءا بالخير والسعة، كانت لديها أكثر من ثلاجة كلها مليئة بخيرات الأرض ومستعدة لاستقبال الضيوف وجاهزة للإهداء للآخرين والإنفاق بغير حساب.
أمى كانت كالنسمة الجميلة العابرة تهفو على الوجوه والأفئدة فترطب وحشة الحياة وتظللهم بظلها الوارف فى هجير الحياة.
كانت فى أواخر السبعين وبيتها قمة فى الترتيب والنظافة والنظام، حتى فى اليوم الذى ماتت فيه تركته كذلك.
كانت تنطق بالحكمة وما أشارت على أحد برأى إلا كان صوابا وكأنها ملهمة وذلك من كثرة إخلاصها وصدقها مع الله ومع الناس، حتى سيناريو نهاية حياتها ذكرتها بنفسها، كانت تعيش وحدها فى البيت الكبير، قالت لأولادها: سأموت دون أن يشعر أحد منكم بشىء ، عاشت وماتت صبورة علي ازمات متتالية كبيرة لا يتحملها بشر ، كانت لاخر دقائق في حياتها متشبثه بأمل البقاء في الحياة ، برغم الآلام المريرة ولعنة المرض الشرس الذي لم يرحم جسمها النحيل ، ولم يرحم نظراتنا وتواسلتنا التي كانت بمثابة كأس صبار مر تنزل قطاراته في الحلقوم كالحنضل .. ولكن ارادة الله فوق كل شئ.
إننى أرثى للأمهات الذين يربون أولادهم ثم يعيشون فى آخر حياتهم فرادى لا أنيس ولا جليس، فهذا فى آخر الدنيا خارج مصر، وهذا فى آخرها فى مصر، وتدور دوامة الحياة بهم.
إننى بطبيعة عملي أذهب تدفعني الامور في بعض الاحيان الذهاب لأمهات وآباء مسنين فأجد صحتهم فى حالة يرثى لهم وهم يعيشون وحدهم وأتألم فى نهاية الزيارة حينما أجد الباب يغلق عليهم وحدهم، والفوضى فى شققهم لا مثيل لها، الآباء والأمهات لا يتركون أولادهم فى صغرهم لحظة، ولكن الأبناء يتركونهم بسهولة ودون إحساس بالذنب، لتتكرر المأساة مع الأبناء بعد سنوات طوال، وتعود دورة الحياة الأليمة دون اعتبار أو اتعاظ.
جيل أمى كان جيلا عظيما فيه من التراحم وصلة الرحم والمحبة والتسامح والتدين الفطرى وتقدير الزوج ورعاية الأبناء والتضحيات الجسام ما في