بقلم: د. حمد الله حافظ الصَّفْتـي
hmdallah.safti@gmail.com
لا ينكر عاقل دور الفنِّ الهادف في بناء الفكر، والارتقاء بالذوق، وعلاج الأمراض المجتمعية، ومناقشة المشكلات العامة مناقشة يمكنها أن تضع المجتمع على طريق الخير والرشاد.
لكن حين يصبح الفنُّ وسيلة للطعن في شرائع الدين، وهدم لبِنات البنيان الفكري والأخلاقي للمجتمع، وزعزعة ثوابته، ونشر حالة من الفوضى الدينية بين العامة، فقد خرج في هذه الحالة عن كونه فنًّا، إلى كونه مِعول هدم يمسك به من لا يريد بأمَّته وأهله خيرا.
لقد طالعت مقاطع من مسلسل «فاتن أمل حربي»، الذي يُعرَض في شهر رمضان المعظم لهذا العام، فوجدته يحاول بكل وسيلة أن يغرس في وعي المشاهدين أن أحكام الشرع المطهر ليس لها إلا مصدر واحد هو القرآن الكريم، وأن كل حكم ليس فيه آية قرآنية صريحة فهو مردود مطعون فيه، مع تصوير علماء الدين وأهل الفتوى على أنهم ببغاوات يردِّدون ما يحفظون دون فهم أو إدراك، فإذا ناقشهم أحد فيما يقرِّرونه من أحكام الشرع المطهر، بادروه بالسباب والاتهام، لضعف حجتهم، وغياب أدلتهم على ما يقولون.
ولعلني لم أندهش من تناول المسلسل لأحكام الشرع الشريف، ولصورة علماء الدين الإسلامي بهذا الأسلوب الكاذب في شكله ومضمونه، لا سيما وكاتب القصة معروف التوجه والأهداف، وسوابقه في هذا المجال مشهورة لدى الخاصة والعامة.
لقد تناول المسلسل قضية حق المرأة المطلقة في حضانة أطفالها إذا تزوجت من غير أبيهم، تناولًا فيه تشويه للحقائق، وتلبيس مقصود على الأفهام، وطعن في أحكام الشريعة الغراء دون سند أو متن، ولا أدري هل تمَّ عرض هذا العمل على متخصص في علوم الشرع قبل إصداره، شأن كل عمل متقن يهدف إلى رسالة سامية، أم هو مجرد عرض لفكر كاتب صحفي تجاوز تخصصه ليكتب في تخصص علمي دقيق دون دراسة أو بحث.
لقد راح المسلسل يقرر في بعض مشاهده، أنه ليس هناك آية قرآنية تقول إن المطلقة إذا تزوجت تسقط حضانتها لأولادها، وأن الله لم يقل هذا بنفسه، متناسيًا أن السُّنة المطهَّرة جزء من التشريع الذي بُعث به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن القرآن الكريم قرَّر ذلك حين قال: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3، 4]، وحين قال: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ [الحشر: 7]، وحين قال: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: 44]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أوتيت الكتاب ومثله معه»، وقال: «يوشِك الرجل متكئًا على أريكته يُحدث بحديثٍ من حديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله عز وجل، ما وجَدْنا فيه من حلالٍ استحللناه، وما وجدنا فيه من حرامٍ حرَّمناه، ألا وإن ما حرَّم رسولُ الله ﷺ مثلُ ما حرَّم الله».
ومع أن المؤمن ينظر إلى الشريعة الغراء بعين الرضا والاطمئنان، دون حاجة في نفسه إلى إقامة الحجة على صلاحيتها وأفضليتها؛ ليقينه ابتداء بأن الله تعالى وضعها ليرعى مصالح خلقه، وأنه سبحانه أرحم بهم من أنفسهم، فلا بأس أن نذكر المسألة ببعض التفصيل كما قررها أهل العلم، تثبيتا للعقول، وتطييبا للقلوب.
لقد جعل الإسلام الولاية على الطفل نوعين: ولاية المال والزواج، وولاية الحضانة والرضاع. ثم جعل الأولى حقا للأب؛ لكون الرجال ـ في الغالب ـ أخبر بالأعراف، وأقدر على تدبير الأعمال وحماية الأموال، وجعل الثانية حقا للأم؛ لكون النساء ـ في الغالب ـ أعرف بتربية الأبناء، وأقدر عليها، وأصبر وأرأف وأفرغ لها. وما ذلك من الإسلام إلا رعاية لتمام مصلحة الأولاد، وتحصيل ما فيه منفعتهم.
فإذا عرض لأحد الأبوين ما يمنعه من القيام بهذه الولاية، تحولت إلى من يقوم بها من أقرباء الأبوين، بما يضمن رعاية الطفل ويحقق مصلحته.
فإذا قام بالأب عارض يمنعه من الولاية على مال ولده، انتقلت الولاية إلى أقرب الرجال للطفل من جهة أبيه، وإن قام بالأم عارض يمنعها من حضانة طفلها وتربيته، انتقلت الحضانة إلى أبيه، أو إلى أقرب أنثى للطفل من جهة أبيه، أو من جهة أمه، على خلاف بين الفقهاء في تقديم أي الجهتين.
فإذا تزوجت أم الطفل المطلقة من غير أبيه، ولم يكن هذا الزوج نسيبا للطفل أو ذا رحم محرم منه، سقطت حضانة الطفل عنها، رعاية لمصلحة الطفل أن ينشأ في بيت رجل غير أبيه أو أقاربه، فيعير بذلك إن كبر، إذ زوج أمه الجديد لا يقبل أن يتحمل نفقته بل يضيق به وبأمه غالبا، وكم عرض الفن نماذج واقعية من ذلك تناساها كاتب المسلسل. فضلا عن أن أم الطفل تكون تحت ولاية زوجها الجديد، فهي معه إن سافر أو أقام، فمن أين لها بعد الشغل بالزوج الولاية على الولد ورعايته كما ينبغي؟
هذا كله عند تنازع الأبوين في حق الحضانة، فإن اتفقا على أن يكون الطفل مع أحدهما بالتراضي، فلهما ذلك، لا يمنعهما منه أحد.
وقد قرر ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيما رواه أبو داود، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً، وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً، وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً، وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي فَأَرَادَ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنِّي، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي». وبذلك قضى أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، واتفق عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بلا مخالف، وقضى به قضاة المسلمين بعدهم إلى يومنا هذا في سائر البلاد، وهو مذهب الأئمة الأربعة، بل حكى ابن المنذر إجماع أهل العلم عليه.
وهذا ما جرت عليه المحاكم المصرية، وقانون الأحوال الشخصية فيها، منذ صاغه أئمة الدين المعتبرون من مشايخ الأزهر والمفتين، بمشاركة المتخصصين من علماء النفس والاجتماع والتربية المشهود لهم في المجال.
وما يذكر من مذهب ابن حزم في عدم سقوط حضانة الأم بحال، ليس بشيء عند أهل العلم بالشرع، إذ ما من احتمال عقلي في مسألة إلا وقال به قائل، فليست العبرة بالقول أو قائله، وإنما بحظ القول من النظر والدليل، وليس كل خلاف جاء معتبرا إلا خلاف له حظ من النظر.
أما تشغيب المسلسل بأن رحمة الله تقتضي عدم حرمان الطفل من أمه، فكلمة حق يراد بها باطل، إذ رحمة الله تقتضي أن لا يربى ولد في بيت رجل غريب عنه وأبوه حي قادر يسمع ويبصر، فرحمة الله لا تقتضي تضييع مصلحة مؤكدة من أجل مصلحة موهومة، إذ رعاية مصلحة الأب كرعاية مصلحة الأم في الشرع سواء بسواء.
ولعلي أقول لكاتب هذا المسلسل وأمثاله: إن لم تستطيعوا أن تبيِّنوا للناس طريق الصدق، وترشدوهم إلى الحقيقة، فحسبكم أن يسلَم الناس من أوهامكم، وأن تكفوا عن الحديث فيما لا تحسنون، وصدق القائل: «لو سكت من لا يعلم؛ لقلَّ الخلاف أو انعدم».