كما تعلمون أن ثورة الثالث والعشرين من يوليو عام ١٩٥٢ أدت إلى إهماد بعض الطبقات الاجتماعية كالطبقة الأرستقراطيّة التي قصت فروعها وردمت ينابيعها وأخمدت لهيب كبريائها، فقد تأممت الشركات وانتصر الفقراء، حتى ظهرت طبقة الفلاحين قادمة من كهف مظلم مقيت يسوده الظلم والتفرقة والعبودية والسير بالسوط لكي تحل محل الأرستقراطيين، وأنا لا أتحدث عن الأرستقراطية بالمعنى اليوناني بل أتحدث عنها بالمعنى المصري الذي التصق بإحدى طبقات المجتمع وهم أصحاب السلطة والنفوذ أو أصحاب الثروات أو المنتمين إلى جماعات عريقة
وللأرستقراطيين دلالات اجتماعية عديدة كنبالة المولد والنسب وغير ذلك، وقد ساعد جمال عبد الناصر الفلاحين في السيطرة من جديد بعد أن أعاد إليهم حقوقهم بإلغاء نظام الإقطاع وقانون الإصلاح الزراعي وبمرور الوقت وبعد وفاة عبد الناصر يظهر أحفاد طبقة الفلاحين الذين أرادوا التغيير على حساب أصولهم، فجمعوا الثروات ووسعوا نفوذهم وتولّوا المناصب العليا في البلاد وتحولت أشكال معيشتهم من مأكل وملبس ومشرب، حتى طريقة كلامهم، وتربية أبنائهم، وتغيروا تمامًا عما كان عليه أجدادهم في الماضي وأدى ذلك التحول إلى انحدارهم ناحية الطبقة الأرستقراطية، هل تتذكرونها؟ تلك الطبقة التي اختفت نتيجةً لظهورهم، حتى أصبحنا أمام طبقة اجتماعية جديدة من الممكن أن نطلق عليها “فلاحتقراطية” لكي نستطيع أن نرضي جميع الأطراف؛ فحصول الأحفاد على امتيازات عديدة خلال الفترة الماضية أدى إلى تغييرهم بشكلٍ قاطع، فالحياة التارفة التي يعيشونها الآن لا تدل على أن هذه الطبقة كانت تمشي في الماضي بالسطو والتعذيب، ومحاولة ارتقائهم لمصاف الشراكسة أو الإنجليز أو الأتراك كانت جريمة كبرى، أما الآن فهم متطلعون في الفكر باحثون عن الحرية، مولعون بديمقراطية أمريكا والعالم الأوربي، ساخطون على بلادهم التي كانت سببًا في الارتقاء بهم، يحبون الاستماع إلى ألفيس آرون بريسلي وعدم الاستماع لأم كلثوم، يندهشون من معزوفة لشورى تشيركاسكي مع العلم أنهم يمتلكون عمر خيرت، لا يحلو لهم مشاهدة مباراة لمحمد صلاح إذا كانت توافق مباراة لرونالدو، حتى المظاهرات الثورية وألوان المعارضة أحيانًا تكون من باب محاكاة العالم الأوروبي، وإذا فتشنا جميعًا عن هذه الطبقة الحديثة سنجدها في كل مدينة وكل إقليم وكل قرية ولهم عادات مستحدثة ستثير دهشتك، وتقاليد ابتدعوها حتى يظهروا اختلافهم من خلالها، كتناول العنب بالشوكة والسكين مثلًا، أو التصافح بالخنصر وغير ذلك من الأشياء التي تؤكد على وجودهم كطائفة جديدة في المجتمع، ولو علم جمال عبد الناصر أن هذه الطبقة ستتحول ذلك التحول لهرع إلى عودة نظام الإقطاع من جديد.
لكننا بالتأكيد يجب أن نقدم التحية لأرواح أجدادنا الفلاحين الذين ظلوا مستمسكين بعاداتهم وتقاليدهم مهما بلغت ثروتهم أو اتسع نفوذهم، فلقد ورثنا منهم تمسكهم غير راغبين في التفريط فيه.