قبل بدء موسم الحج ومع استغلال هذا الحدث السنوي لتحقيق أهداف سياسية، ومع التصريح المتكرر منذ سنوات طويلة، وعلى الأخص منذ أواسط ثمانينيات القرن الماضي، يبدو كالجزء الظاهر من جبل الجليد العائم، إذ إن عملية تسيس الحج أو استغلال شعائره – ليس في الإسلام وحده بل في كافة الديانات السماوية وغير السماوية – تبدو غائرة في التاريخ الإنساني منذ أقدم العصور. ولا يبدو غريبًا أن تتحول طقوس الحج في كل الديانات إلى محاولة للتأثير على أوضاع السلطة السياسية والدينية القائمة في الداخل، أو مد هذا التأثير إلى خارج الحدود للتأثير على الأوضاع الإقليمية، وخوض الصراعات حول النفوذ الإقليمي لصالح هذه الدولة أو تلك. فشعيرة الحج تبدو الأوفر حظًا من بين كافة الشعائر والطقوس الدينية لكافة الديانات عامة والديانة الإسلامية على وجه الخصوص، لحشد مئات الآلاف أو الملايين من البشر وحملهم على توجيه أبصارهم إلى قضية معينة قد لا تشغل أذهانهم كأفراد، ورغم ذلك يسهل حشدهم وتوجيههم لخدمة هذه القضية بوعي أو بدون وعي منهم. يقول عالم الاجتماع إميل دوركايم: يعيش الأفراد لذواتهم الفردية، ولكنهم عندما ينخرطون في الأنشطة الاحتفالية والطقوس الجماعية، دينية كانت أو غير ذلك، فإن الروح الجماعية تتّقد ويعاد تنشيط الضمير والحسّ الجمعي، وينتقل الأفراد من كونهم أفرادًا “منفردين” إلى أفراد “جماعيين”. ولقد سبق لـ”دوركايم” أن أكّد مثل هذه الحقيقة في مؤلفه المخصّص للحياة الدينية: “الأشكال الأولية للحياة الدينية” بقوله: “يتشكّل لدى الأفراد من خلال حضورهم الجماعي ضرب من الشعور الجمعي الجيّاش لا يدركونه وهم في حالتهم الفردية. فالأفراد يفتقدون إلى الطاقة الحيوية إذا كانوا فرادى ويبقون غير مبالين بالعالم، مستسلمين للفراغ والروتين اليومي، ويتصرّفون كمن أصابهم الإنهاك غير مبالين بما يفعله الآخرون، ولكن وحدها الممارسات الجماعية والطقوسية التي ستجيّشهم وتملأ الفراغ الذي يغرقون فيه، وتدخلهم في الحالة الجماعية[1].
من هذه الخاصية تحديدًا تظهر أهمية الحج واستخدامه في الأغراض السياسية. أيضا يمكن القول إن توجه ملايين البشر إلى بقعة محددة بشكل سنوي أو موسمي (حج أو عمرة لدى المسلمين) يخلق مصالح اقتصادية مباشرة سواء في المناطق التي يأتي منها الحجاج أو تلك التي يتوجهون إليها، ويمكن أن يكون الحج بذلك وسيلة للضغط من جانب البلدان التي يأتي منها الحجاج أو من جانب البلد الذي يحجون إليه للتأثير في السياسات الداخلية والخارجية لتلك البلدان. والحج كما يراه المسلمون هو فرض إلهي قديم دأب عليه الناس منذ بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام الكعبة. وكان العرب يقدسون الكعبة باعتبارها البيت الحرام، ويشمل التقديس مكة والمناطق المجاورة لها. وكان العرب يجيئون إلى مكة من كل فج في الجزيرة العربية في موسم الحج، فتشهد مكة بذلك نشاطًا تجاريًا واقتصاديًا وثقافيًا[2]. لقد ولدت شعيرة الحج نفسها في الإسلام كامتداد للطقوس المماثلة التي مارستها القبائل العربية قبل ظهوره. وكانت الجزيرة العربية مهد الإسلام تحوي من قبله ما يزيد على عشرين كعبة،[3]حتى نجحت الدعوة الإسلامية في النهاية في توحيد الجموع نحو الكعبة التي تحدث عنها القرآن والتي انطلقت منها دعوة النبي إبراهيم عليه السلام. وعملية التوحيد في ظل الإسلام، كما كانت توحيدًا نحو عبادة الإله الواحد، كانت أيضًا توحيدًا سياسيًا للقبائل العربية مكنتهم من إقامة إمبراطوريتهم المترامية الأطراف في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام وخلفائه، وهو ما يؤكد أن الأغراض السياسية للحج كانت جزءًا لا يتجزأ من هذه الشعيرة المهمة منذ نشأتها، وازدادت أهميتها بظهور الدعوة الإسلامية وانتشارها في ربوع العالم القديم آنذاك.
أشكال خطيرة من تسييس الحج بعد موت الرسول (عليه السلام)
الواقع إن عملية تسييس الحج لم تنقطع بعد وفاة الرسول وخلفائه الأوائل، بل أدى ظهور دولة الخلافة التي تأسست على يد قبائل وعائلات مثل الدولة الأموية والعباسية والعثمانية، إلى اتخاذ عملية تسييس الحج منحى خطير وصل إلى حد محاولة نقل الشعيرة نفسها إلى خارج الجزيرة العربية عبر الاستيلاء على الحجر الأسود تارة، أو عبر محاولة نقل رفاة النبي وصاحبيه أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب تارة أخرى. وكان هدف هذه المحاولات واضحًا وهو حرمان دول الخلافة التي استندت-رغم كونها ملكيات عائلية-إلى المشروعية الدينية لتثبيت حكمها، بدعوى حمايتها للبقاع المقدسة في مكة والمدينة. ويمكن أن نذكر في هذا الصدد حادثتين كبيرتين:
الأولى، قام بها القرامطة، هي فرقة سياسية دينية من غلاة الشيعة أسسها حمدان بن الأشعث الملقب بقرمط وهو إسماعيلي العقيدة، والإسماعيلية هي إحدى الفرق الشيعية المتطرفة. نشأت دولة القرامطة في منطقة الإحساء في شبه الجزيرة العربية، وجعلوا مركزهم في جزيرة أوال (البحرين حاليًا)، وكان أول أمرائهم أبا السعيد الحسن بن بهرام الجنابي (286 -301 هج / 899 م – 913 م)، وسمي أتباعه بالجانبيين وهو أقوى رجال هذه الدولة وأطولهم حكما. ويليه في الأهمية الحسن بن أحمد بن بهرام المعروف بالحسن الأعصم (350 – 358 هج / 961 م – 969 م). ثم جاء بعده أبو يعقوب يوسف بن الحسن الجنابي (358-366 هج / 969 م – 976 م)، وبعد وفاته صار حكم الدولة القرمطية إلى مجلس من شيوخ القرامطة يسمى مجلس الخمسة، وكانت الدولة قد ضعفت ولم يعد يحسب لها حساب.
تمكن القرامطة من سرقة الحجر الأسود. وحسب بعض الروايات فإن القائد العسكري للقرامطة أبو طاهر سليمان هاجم عام 929 ميلادية قوافل الحجاج بعد رفض الخلافة العباسية التنازل له عن مناطق البصرة والأهواز لضمها إلى المناطق الخاضعة لسيادة القرامطة في الكوفة ونواحيها. وفِي العام التالي زحف نحو مكة في موسم الحج وقتل الحجاج داخلها قبل أن يستولي على الحجر الأسود ويقتلعه من موضعه في الكعبة ونقله إلى منطقة هجر التابعة له لإقامة كعبة فيها. واقتصر رد فعل الخليفة العباسي المقتدر على توجيه الإنذارات للقرامطة لحملهم على إعادة الحجر إلى مكانه، ورفض القرامطة ذلك، وظل الحجر الأسود في حوزة القرامطة لمدة 22 عامًا، الأمر الذي أثر على هيبة الخلافة العباسية في أعين المسلمين وأدى إلى انتشار محاولات التمرد والانفصال عن الدولة العباسية. لقد عرفت الطوائف الباطنية بتشددها في تفسير القرآن تفسيرًا باطنيًا (أي اعتبار أي حدث يتم هو تدبير إلهي مسبق، وأن المؤمنين بذلك المبدأ هم وحدهم المسلمون الحقيقيون، وليسوا من يدعون مسئولية البشر ولو جزئيا عن ما يحدث من أحداث) ومنهم القرامطة الذين نادوا بتعطيل الفرائض والشعائر تحت ظل حكم لا يتوفر على معايير الشريعة الإسلامية من وجهة نظرهم. ويمكن تفسير سرقتهم للحجر الأسود بأنه هدف إلى تعطيل فريضة الحج بنقل الحجر الأسود من الكعبة إلى مكان آخر وبالتالي نقل المركز السياسي للإسلام من الخلافة العباسية إلى الدولة القرمطية[4]. ويبرز الباحث محمد طقوش ما ذكرناه من قبل حول الدور المزدوج للأماكن المقدسة التي يحج إليها الناس، حيث تلعب العوامل الاقتصادية دورًا لا ينفصل عن الدلالات السياسية للسعي نحو السيطرة على البقاع المقدسة، حيث يذكر أن سرقة الحجر الأسود جاءت أيضًا بسبب رغبة دولة القرامطة في الحصول على موارد تعينهاعلى تدبير احتياجاتها بعد أن فشلت في توحيد جهودها مع الدولة الفاطمية الشيعية الشريكة معهم في الاعتقاد في المذهب الإسماعيلي، وأصبحت المواجهة عمليا تدور في مواجهة العباسيين والفاطميين معًا. ولكن يمكننا القول أيضا إن إقناع المسلمين بتحويل قبلتهم نحو منطقة هجر أو الكعبة التي نصب فيها القرامطة الحجر الأسود، لم يكن بالأمر السهل فتحويل المعتقدات يحتاج ليس فقط لسنوات طويلة، بل أيضًا لقوة اقتصادية وعسكرية قادرة على القضاء على المركز الديني القديم وتوجيه الناس صوب المركز الجديد.
المحاولة الثانية والخطيرة لتسييس الحج جاءت على يد الحاكم بأمر الله الفاطمي، عبر محاولة سرقة رفات الرسول وصاحبيه أبي بكر وعمر، حيث أقام ثلاثة شواهد في القاهرة بالقرب من الجامع الأزهر ليتم دفن الرفاة فيها[5]. وبعيدًا عن شخصية الحاكم بأمر الله الفاطمي المتقلبة كما تذكر كتب التاريخ وتبرر بها بعض تصرفاته، فإنه لا يمكن تجاهل مغزى هذه الحادثة في الإطار العام لتسييس الحج تاريخيًا؛ فالدولة الفاطمية التي تبنت المذهب الشيعي بذلت محاولات مستميتة لنشر مذهبها في عالم يغلب عليه المذهب السني في مصر والشام وبعض مناطق الشمال الأفريقي. ولكن هذه المحاولات لم يكتب لها النجاح بل تسببت في كثير من الأحيان في إثارة تمردات السنة ضد الحكم الفاطمي، ومن ثم ربما توهم الحاكم بأمر الله – كما توهم القرامطة من قبل-بأن نقل الرموز الإسلامية (الحجر الأسود، رفاة النبي وصحبه) سيجعل من أمر تحول الشعوب السنية التي يحكمونها إلى المذهب الشيعي مسألة سهلة، بالإضافة إلى ما يعنيه ذلك من تحول مركز الخلافة من الدولة العباسية إلى الدولة الفاطمية وتداعيات ذلك سياسيًا واقتصاديًا. ولكن فات الحاكم بأمر الله أن القضية لا تتوقف على قداسة الحجر الأسود أو وجود رفات النبي وصحبه بالمدينة، بل أيضًا على صعوبة إقناع المسلمين بتحويل قبلتهم التي ذكرها القرآن والذي لم يكن الحاكم أو خلفاؤه قادرين على العبث بآياته الواضحة وإلا واجهوا مزيدًا من التمردات التي قد تقضي على حكمهم إلى الأبد.
على أية حال انتهت حادثة سرقة القرامطة للحجر الأسود باستعادة الحجر ونصبه مجددا في موقعه بعد اثنين وعشرين عامًا من غيابه، كما لم يتمكن الحاكم بأمر الله من تنفيذ مخططه بنقل رفات النبي وصحبه إلى القاهرة. ورغم ذلك بقت عملية تسييس الحج قائمة وتظهر بين الحين والآخر رغم الفصل النظري بين الشرعية السياسية والشرعية الدينية بعد ظهور الدولة القومية الحديثة في أخريات القرن التاسع عشر ووصولها إلى المنطقة العربية في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
جماعة الإخوان المسلمين وتسييس الحج
تعتبر جماعة الإخوان المسلمين والتي أسسها حسن البنّا في مصر عام 1928، أول ظهور قوي لجماعة سياسية تهدف إلى الاستيلاء على السلطة في مصر وتكوين خلافة إسلامية ممتدة تستعيد أمجاد الماضي الإسلامي البعيد في مرحلة لاحقة، بعد قرون طويلة من خمود هذه الجماعات على الأقل منذ تأسيس الدولة العثمانية في مطلع القرن السادس عشر الميلادي. اتخذت الجماعة من الدعوة الدينية ستارًا لأغراضها السياسية وكلفها ذلك صدامات متوالية مع السلطة في مصر، سواء قبل ثورة يوليو 1952 أو بعدها. ولكن الطبيعة البرجماتية لقادة هذه الحركة وتركيزها على تقوية وجودها في مصر وعدم فتح جبهات صدام متعددة في البلاد مكن الجماعة من الانتشار الواسع في العالم العربي وبعض البلدان العربية والإسلامية الأخرى. وقد حاولت الجماعة المناورة في علاقتها بالمملكة العربية السعودية الذي رفض مؤسسها الملك عبد العزيز آل سعود السماح لحسن البنّا بتأسيس فرع لها في المملكة، فاقتصرت على الدعوة السرية لنفسها خلال مواسم الحج[6].يقول فهمي أبو غدير، أحد قادة الجماعة: “سعدت بصحبة أستاذي الأستاذ البنّا في مكّة موسم حج 1367هـ 1948، وتوثقت الصلة بيني وبين أحد النجديين المتحركين المتصلين.. نصحني لله ألا أعود لمصر هذا العام، الاعتقالات والسجون والمنافي والمحاكمات والمشانق والاغتيالات في انتظاركم!! وعهد الله أنني أجوب معك نجد والحجاز داعين إلى درب الإخوان المسلمين.. تبسّم البنّا عندما سمع بذلك (وقال:) ألا تعلم أنّ الحكومة السعودية لم تسمح لي بالحج هذا العام إلا بعد أن تعهّدتُ بعدم الخطابة والكلام في السياسة”. قلت: بلى “فكيف تسمح بالدعاية للإخوان؟!”[7].
لكن مع تزايد الخلافات بين المملكة العربية السعودية ومصر تحت قيادة جمال عبد الناصر، سمحت المملكة لقادة الإخوان الهاربين من مصر بعدالصدام بينه وبين الجماعة عام 1954، للجوء إليها والإقامة بها. وفي عام 1962، قامت الثورة اليمنية مما أدى إلى نشوب صراع في اليمن بين الجمهوريين والملكيين، ساندت فيه مصر وموسكو معسكر الجمهوريين، بينما ساند الملكية كل من السعودية والأردن وإيران الشاه وواشنطن. وخلال هذه الفترة التي استمرت حتى عام 1967، استغلت جماعة الإخوان المسلمين موسم الحج لاجتماع قادتها في السعودية بحجة أداء الشعيرة، ولكن المهمة الأكبر لهذه الشخصيات القيادية كانت إجراء اتصالات مع قادة الإخوان الفارين إلى المملكة والذين وجدوا فيها ترحيبًا من حكام المملكة منذ أواخر الخمسينيات بحكم كون جماعة الإخوان في حالة عداء مع عبد الناصر، فيما كان الأخير يناصر المعارضين للعرش السعودي[8].
وبعد رحيل عبد الناصر عام 1970 ظل”الإخوان المسلمين يعملون بصمتٍ وفِي الخفاء، ويتخذون من موسم الحج مكانًا للالتقاء برموز وقيادات الجماعة من شتى البلدان، وتعزيز تنظيماتهم، ووضع خططهم وضمان التكامل فيما بينهم. ومن ذلك على سبيل المثال ما صنعه حسن الهضيبي، المرشد الثاني للجماعة، في موسم حج 1973؛ فبعد وفاة عبدالناصر والإفراج عن الهضيبي والإخوان عام 1971 انتهز الهضيبي فرصة الحجّ سنة 1973، فعقد أوّل اجتماعٍ موسّعٍ لللإخوان في مكة المكرّمة. وكان هذا الاجتماع هو الأوّل من نوعه منذ محنة 1954. كان من قرارات هذا الاجتماع إعادة تشكيل مجلس الشورى ليمثل جميع الإخوان العاملين، وتكوين لجنة عضوية لتحديد “الإخوان” العاملين نظرًا لضياع الكشوفات خلال الأحداث، وذلك بحسب ما ذكره عبدالله النفيسي في كتابه الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية[9]. ظل موسم الحج ومواسم العمره بمثابة الفرصة لجماعة الإخوان لتقوية وضعها في العالم العربي والإسلامي وخاصة في مصر، وعلاوة على حرية الاجتماع لقادتها بعيدًا عن أعين الأمن، كانت الفرصة سانحة لتجنيد مزيد من الأتباع وجمع التبرعات.
لكن بعد أن وصلت الجماعة إلى الحكم في عام 2012، في مصر سرعان ما فقدته تحت ضغط الثورة الشعبية التي دعمها الجيش المصري في يونيو 2013، لتعود الجماعة إلى حياة المنافي مرة أخرى. وبعد أن شهدت علاقتها بالمملكة العربية السعودية توترًا حادًا في أعقاب سقوط حكم الجماعة في مصر إلى حد قيام المملكة بوضعها في قائمة التنظيمات الإرهابية، حاولت الجماعة مجددًا استغلال موسم الحج على نطاق أوسع في أغراضها السياسية. فقد دعت مجموعات “إخوانية” لرفع شعار رابعة على جبل عرفات في يوم عرفات، كما طالب جمعة أمين، نائب المرشد، قيادات التنظيم الدولي لاستغلال موسم الحج. كانت الفكرة إمكانية نقل صورة احتجاجات الإخوان في الحج على جميع القنوات الفضائية التي ستنقل شعائر الحج، وأن المطلوب هو طبع 500 ألف بوستر لشعار رابعة وتوزيعه على جميع الجاليات المسلمة، خاصة المصريين والأتراك والباكستانيين والماليزيين، على أن تساعد في عملية الطبع الجالية المصرية في السعودية وإيصال البوسترات إلى جبل عرفات[10].
استغلال إيران الحج سياسيًا
في عام 1979 سقط نظام الشاه في إيران، وبعد مرحلة قصيرة من التنافس على السلطة بين الخميني وعدد من التنظيمات اليسارية التي شاركت في الإطاحة بحكم الشاه، حسم أية الله الخميني الصراع لصالحه، وبدأ في إقامة دولة دينية تدين بالمذهب الشيعي، ودعا إلى تصدير الثورة ونموذج الدولة الجديدة إلى كافة بلدان العالم الإسلامي، الأمر الذي أثار القلق خاصة في الملكة العربية السعودية وبعض بلدان الخليج. يقول الخميني في أحد خطبه “إن المسجد الحرام والمساجد الأخرى في زمان رسول الله الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت مراكز عسكرية وسياسية واجتماعية، ولم يكن مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأجل الأمور العبادية فقط كالصلاة والصيام، بل كانت المسائل السياسية هي الأغلب، فكانت الأمور التي تتعلق بإرسال الرجال إلى الحرب وتعبئة الناس إنما تبدأ من المسجد في أي وقت يحتاجون فيه لذلك”[11]
لم يبدأ الإيرانيون في استغلال موسم الحج لأغراض سياسية إلا في عام 1987، إذ حال انشغالهم بحربهم مع العراق حتى عام 1986 دون تصعيد الأوضاع مع المملكة العربية السعودية. وتحت عنوان إعلان البراءة من الشرك والكفر، طالب الخميني ومن بعده علي أكبر خامنئي، المرشد الأعلى للثورة، من الحجاج الإيرانيين رفع الشعارات المعادية للولايات المتحدة وإسرائيل ومن والهما (يقصد السعودية على وجه الخصوص). ومنذ ذلك الوقت وقعت عدة حوادث بين الحجاج الإيرانيين وسلطات الأمن السعودية أثناء مواسم الحج. ففي موسم عام 1987 وقعت اشتباكات عنيفة في مدينة مكة المكرمة بين مجموعة من الحجاج الشيعة غالبيتهم إيرانيون وقوات الأمن السعودية؛ نتيجة ممارسة الحجاج الإيرانيين مراسم البراءة، ورفع شعارات سياسية معادية لأمريكا وإسرائيل؛ حيث قامت قوات الشرطة والحرس الوطني بتطويق جزء من المسار المخطط للمسيرة ومنع المتظاهرين من العبور مما أدى إلى تشابك الحجاج المتظاهرين مع قوات الأمن. وقد اشتدت حدة الاشتباك التي وصلت إلى مرحلة العنف بعد تدافع الحجاج بقوة، مما نتج عنه مقتل 402 شخص، منهم 275 حاجًّا إيرانيًّا، و42 حاجًّا من جنسيات أخرى، و85 رجل أمن سعودي، فضلًا عن إصابة 649 شخصًا، 303 من الإيرانيين، و145 من السعوديين، و201 حاج من بلدان أخرى.
ونتيجة لتلك الأحداث الدامية، قطعت الرياض علاقتها الدبلوماسية مع إيران، وتم تقليل العدد المسموح به من الحجاج الإيرانيين من 150 ألف حاج إلى45 ألفًا. أما طهران فقامت بمقاطعة الحج في المواسم الثلاثة التالية، إلى أن تجددت العلاقات بين الطرفين في عام 1991 بعد اتفاق يسمح للإيرانيين بممارسة فريضة الحج مرة أخرى، ووضع حدٍّ أقصى للحجاج الإيرانيين يبلغ 115 ألف حاج، مع السماح لهم بالتظاهر، لكن في مكان واحد تُخصصه لهم السلطات السعودية.
ورغم التزام الطرفين بهذا الاتفاق على مدار العقدين التاليين، فقد وقعت بعض الأحداث اللاحقة التي عكَّرت صفو ذلك الاتفاق. ففي موسم حج عام 1989 وقع انفجاران بجوار الحرم المكي نتج عنهما وفاة شخص وإصابة 16 آخرين، وألقت السلطات الأمنية القبض على 20 حاجًّا كويتيًّا اتضح خلال سير التحقيقات معهم تلقيهم تعليمات من محمد باقر المهري (عالم دين ووكيل المرجعيات الشيعية في دولة الكويت)، وتسلمهم المواد المتفجرة عن طريق دبلوماسيين إيرانيين في سفارة طهران في الكويت، وتمت محاكمتهم فيما بعد. وفِي موسم حج عام 1990 وقعت حادثة نفق معيصم الشهيرة في يوم عيد الأضحى، نتيجة تدافع الحجاج والزحام بينهم. ورغم اتهام البعض من الإيرانيين بإطلاق غازات سامة أدت إلى وفاة 1426 حاجًا من مختلف الجنسيات فإن السلطات السعودية حينها لم تتهم أحدًا، وقالت إنه مجرد “حادث عرضي”.
آخر تلك الأحداث هي حادثة تدافع منى في موسم حج عام 2015، والتي نتج عنها مقتل نحو 2300 حاج أجنبي، من بينهم 464 إيرانيا، وهي أسوأ أزمة وقعت في مواسم الحج بعد أحداث 1987، والتي استغلتها إيران لاتهام السعودية دومًا بعدم القدرة على تنظيم مواسم الحج، فضلا عن سعيها لتدويل القضية، ومقاضاة السعودية أمام المحاكم الدولية في مقتل حجاجها الإيرانيين[12]. واذا كانت قطر قد عمدت مؤخرا إلى توجيه الاتهام للسعودية بمنع الحجاج القطريين من أداء الشعيرة هذا العام، فإن هذه الأزمة بدورها قد ارتبطت بإيران بشكل غير مباشر، فقطر التي قامت المملكة السعودية وكل من مصر والإمارات والبحرين بمقاطعتها على خلفية دعمها للتنظيمات الإرهابية وسعيها لهز استقرار العديد من البلدان العربية، وجدت تشجيعًا من إيران على سلوكها العدواني تجاه جيرانها، وأتت عملية الاتهام للسعودية بتسييس الحج من جانبها كامتداد لما دأبت إيران على تكراره منذ ثمانينيات القرن الماضي.
استغلال البقاع المقدسة سياسيًا
إذا كنّا قد ركزنا على تسييس الحج فقط، فإنه لا ينبغي تجاهل حقيقة أن التسييس ليس مرتبطًا بموسم أداء هذه الشعيرة، إذ تستغل الكثير من الجماعات المتشددة البقاع المقدسة في مكة والمدينة في غير مواسم الحج أيضا لتحقيق أهداف سياسية. فعلى سبيل المثال، وفي 20 نوفمبر عام 1979، قام زعيم ما يسمى الجماعة السلفية المحتسبة جهيمان العتيبي باحتلال الحرم المكي مع ما يقرب من 250 من اتباعه، معلنين ظهور المهدي المنتظر الذي بشرت به كتب التراث الإسلامي ليقود جيوش المؤمنيبن نحو تطهير العالم من الدنس والفساد. رغم أن الحادث انتهى بمقتل جميع المهاجمين وإعدام بعضهم لاحقًا، إلا أنه لم يترك مجالًا للشك في أن التفسيرات الضالة للدين قد باتت خطرًا داهمًا على أمن العالم بأسره. وتشير رمزية احتلال الحرم من قبل جماعة جهيمان رغم أنها لم تأت في موسم الحج إلى ما ينطوي عليه الموقع المقدس لما يزيد على المليار ونصف المليار مسلم من شحنة نفسية وعاطفية قد يستغلها الكثيرون في حشد جمهور كبير وتوجيهه نحو أهداف تظهر وكأنها دينية بحتة بينما الواقع أنها في جوهرها سياسية تستغلها أطراف داخلية وخارجية في الصراع على السلطة والنفوذ الإقليمي والدولي[13].
وعلى الرغم من نفي المملكة العربية السعودية استغلال الحج من قبلها بشكل سياسي، إلا أنه من الصعب تجاهل بعض الوقائع التي يثيرها خصومها. على سبيل المثال يقول أحد التقارير الصادرة مؤخرا: السعودية تميز بين الحجاج على أساس الولاء السياسي، فمنع حجاج دول كاملة السيادة وتتمتع بالشرعية الدولية، في الوقت الذي سمحت فيه السعودية لحجاج من مناطق تقع تحت سيطرة داعش الإرهابية من أداء فريضة الحج، ومنهم حجاج من مدينة الموصل العراقية التي تخضع لتنظيم داعش منذ سنتين، وأن القرار السعودي سمح فقط للسوريين مِن خارج سوريا، أو من مناطق تخرج عن سيطرة الدولة السورية ويسيطر عليها الإرهابيون في شمال البلاد، حيث تُمنح التأشيرات لهم عن طريق ممثلي ما يسمى (الائتلاف السوري المعارض)، الذي لا علاقة له بالداخل السوري ولا يتعامل معه المواطنون المقيمون داخلها، وليس جهة يمكن التعامل معها دوليا[14].
خلاصة ونتائج
مما لا شك فيه يمكن اعتبار مواسم الحج، والعمرة مناسبات يتم استغلالها عبر العصور لأغراض سياسية كما أوضحنا في السطور السابقة، ولا يتوقف الاستغلال على الحجاج القادمين من الخارج إلى البقاع المقدسة فقد تستخدمها الدولة التي تسيطر على هذه المقدسات الداخلة في نطاق سيادتها، كما يمكن أن تستخدمها الجماعات المعارضة سياسيا في الداخل تحت دعاوى دينية. وقد ساهمت العلاقة المتشابكة دوما بين الشرعية الدينية والشرعية السياسية لأنظمة الحكم في العالم الإسلامي في تسهيل استغلال الدين وشعائره، وعلى الأخص مناسك الحج لأغراض سياسية. وفِي ضوء حوادث التاريخ يمكن القول إن الصراع المذهبي في الإسلام (الصراع السني – الشيعي) لعب دورًا كبيرًا في إذكاء عمليات التسييس للحج، إذ مكنت، وتمكن، هذه الشعيرة الأقلية الشيعية المتطلعة لقيادة العالم الإسلامي من رفع شعاراتها في مواسم الحج للتشكيك في مدى التزام الدولة المسيطرة على الحرمين المكي والنبوي (المملكة العربية السعودية) بحماية الحجاج وتأمينهم، وتبطن خطابًا مناوئا يستند إلى تفسيرات دينية مذهبية متشددة لخلق مزيد من التأثير السياسي، وهو الأمر نفسه الذي تتبعه الجماعات المعارضة ذات التوجه الديني مثل جماعة الإخوان المسلمين، وجماعة جهيمان العتيبي التي أشرنا إليهما بشيء من التفصيل فيما سبق. وأخيرًا فإن المنافسات الإقليمية بين الإمبراطوريات الإسلامية سابقًا، والدول الإسلامية حاليا تلعب بدورها الدور الأكبر في عملية تسييس الحج من قبل كافة الأطراف، وهو ما قد يؤثر على مسارات التغيير السياسي في العالم العربي والإسلامي، ويغرقها بشكل أعمق في بئر الصراعات الدينية والمذهبية مشوها حقيقة ما يعتمل في هذه البلدان من صراعات اقتصادية – اجتماعية – سياسة، ومهددًا أيضًا باستنزاف الجميع في حروب تطول وتمتد لسنوات طويلة قادمة.
[1] وردت في منصف المحواشي، “الطقوس وجبروت الرموز… قراءة في الوظائف والدلالات ضمن مجتمع متحول”، متاح على الرابط التالي:
[2] المصدر نفسه.
[3] بسام خوري، “الشريعة الإسلامية: نظرة تاريخية”، بحث منشور على الرابط:
[4] محمد سهيل طقوش، تاريخ الفاطميين في شمال أفريقيا ومصر وبلاد الشام (بيروت: دار النفائس، الطبعة الثانية، 2007)، ص 98.
[5] أيمن فؤاد سيد، الدولة الفاطمية في مصر: تفسير جديد (القاهرة: مكتبة الأسرة، 2007)، ص177.
[6] عبد الله بن بجاد العتيبي، “الإخوان والسعودية: القصة الكاملة”، الحلقة الثانية، متاح على الرابط التالي:
[7] عبدالله بن بجاد العتيبي،”الإخوان المسلمون والسعودية… الهجرة والعلاقة”، دراسة منشورة علي موقع مركز المسبار،13 سبتمبر 2013. متاح على الرابط التالي:
[8] زينب الغزالي، أيّام من حياتي، علي الرابط التالي:
[9] عبدالله بن بجاد العتيبي، الإخوان المسلمون والسعودية الهجرة والعلاقة، مرجع سبق ذكره.
[10] عبدالله بن بيجاد العتيبي؛ الإخوان والحج… السياسة دائما”، متاح على الرابط التالي:
http://www.alittihad.ae/wajhatauthor.php?AuthorID=304&id=75224
[11] انظر: حملة جمعية المغتربين اللبنانيين للحج والعمرة،”محاضرة البعد المعنوي للحج”،منشورة علي الرابط التالي:
[12] “تسييس الحج هدف إيراني من خميني الي خامنئي”، تقرير منشور على الرابط التالي:
http://orient-news.net/ar/news_show/122341/0/تسييس-الحج-هدف-إيراني-من-الخميني-إلى-خامنئي
[13] بول أرتس، كارولين رولانتس، العربية السعودية – مملكة في مواجهة الخطر، ترجمة ابتسام خضرا (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى،2016)، ص ص 27 – 28. وانظر أيضًا: ناصر الحزيمي، أيام مع جهيمان – كنت مع الجماعة السلفية المحتسبة (بيروت:الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الثانية، ٢٠١١).
[14] حمد جاسم محمد، “تسيس موسم الحج سياسة جديدة للصراع في المنطقة”، موقع مركز الفرات، 15 أكتوبر 2016.