لا أخفيك سراً يا عزيزي، كانت الوحدة قاتلة، قاتلة بكل طقوسها، بأقداح القهوة التي غصت بها حجرتي، برائحة التبغ التي أوصتني أمي مئات المرات أن أتخلص منها، بصوت فيروز الذي ظننت أنه خير أنيس لي في استقلالي الدائم، بأشياء كثيرة لا يعرفها غيري ولا أعرف غيرها، حتى هذا الطبيب النفسي قد سئم من تقاعسي المقصود وبقيت وحدي في نهاية المطاف، وإلى الآن لم أجد من ينصفني أو يربت على قلبي بمصافاة وود
والناس الناس سذج للغاية، ظلوا يشاهدونني من بعيد بعيونهم الهزلية الوقحة، وأجزموا على أن ما أعانيه كلام فارغ، مجرد خزعبلة من خزعبلات الجيل الذي لا يحمل هما ولا يعبأ بمسؤليات، وكانت حجتهم في هذا الأمر أنني دائما على مرمى بصرهم، مجاورًا لهم في المسرات ومتاخما في الأسى والمضرات، ولم أكترث أن أظهر لهم معانات؛ لأن كل ما يعرفونه عن الوحدة أنها هي التي تتجلى في إحدى جلسات الذكر لأحدهم، وغير ذلك أوهام خلفها جيل المراهقين
وظللت أفتش عن من يمنحني الخلاص، ألهث بتلهف وراء كل شيء مظلم حالك، صرت مشمئزًا من كل شيء يتعلق بالبشر، ثرثرتهم المبالغ فيها، ضحكاتهم المغشوشة، منقبضـًا إذا سمعت أذني صوت خطواتهم، كيف يمكن أن أفسر لهم أنني لم أعد صالحـًا لممارسة الحياة الروتينية السابقة، كيف أجعلهم يصدقون أنني شخصاً آخر غير الذي اعتادوا عليه واعتاد عليهم.
كنت مولعـًا ببدايات المساء، وكان الليل يعانقني بتفان ووداد، لطالما كان يحمل في طياته ما كنت أتوق إليه، كأمطاره التي جعلت قاطني المدينة يتوارون، كقمره الذي يشبهني في وحدتي، كصمته الذي جعلني أصغى إلى أنيني وأسمع إلى عزف نحيبي بإتقان تام.
وكان النحيب يمحو الانتظار بداخلي، انتظاري الممزوج بانبعاث الذكرايات الراسخة داخل أعماقي، والحنين إلى الماضي، والأماكن التي كانت تجمعنا بأولئك الذين أقسموا على البقاء ثم رحلوا وتركوني أصارع وحدتي حتى التهمت مكامن الأمان بداخلي، رحلوا وجعلوني أقاتل بمفردي بعدما كانوا ذخيرتي في وهني ووقودي في انكساري وضعفي.